أناقش معكم في اليوم موضوعًا جوهريًا يخص فئة مهمة من مجتمعنا وهي فئة المكفوفين وضعاف البصر، فهذه الفئة حباها الله بنورٍ وبصيرة في القلب، وكثير منهم يوفّق لحفظ كتاب الله ويتقن تلاوته وضبط أحكامه. لذا فإن من الواجب علينا جميعًا إيلاء عناية خاصة لهم والسعي بشتى السبل للاستفادة من كافة التقنيات التي تساعد على تحسين تجربة استخدامهم للتطبيقات القرآنية، ولعل أهم التقنيات التي يتوجب استغلالها هي تقنيات الذكاء الاصطناعي التي شهدت تطورًا كبيرًا في الآونة الأخيرة ووفرت فرصة سانحة لتعزيز تجربة المستخدم لتخدم هذه الفئة بالتحديد.
لماذا نحتاج لتحسين تجربة المكفوفين للتطبيقات القرآنية؟
لو نظرنا إلى التطبيقات القرآنية اليوم، فسنجد أن معظمها تطبيقات تقليدية تتضمن عرض النصوص القرآنية وتلاوة الآيات ويعتمد فيها التنقّل بين السور والآيات على قوائم خيارات وأزرار مرئية يجب الضغط عليها، وهذا أمر صعب على مستخدم كفيف يعتمد على شاشة صوتية فقط.
كما أن البحث أو الوصول السريع إلى معاني الآيات أو التفسير يتطلب الكتابة وهذا أمر غير عملي إطلاقا لفئة المكفوفين وضعاف البصر، ويمكن من خلال دمج الذكاء الاصطناعي إحداث نقلة نوعية في هذه التطبيقات وجعلها تتواءم مع احتياجات هذه الفئة المجتمعية.
أبرز تقنيات ذكاء اصطناعي يمكن دمجها مع التطبيقات القرآنية للمكفوفين
دعونا نتعرف على عدة تقنيات مفيدة في هذا المجال:
1. التعرف التلقائي على الكلام
من أهم تقنيات الذكاء الاصطناعي المناسبة للدمج في التطبيقات القرآنية تقنية التعرف التلقائي على الكلام Automatic Speech Recognition أو ASR اختصارًا التي تجعل الحاسوب أو الهاتف قادرًا على الاستماع إلى صوت الإنسان، ثم تحوله لنص مكتوب أو أمر يفهمه النظام.
تفيد هذه التقنية في تطبيقات التلاوة كثيرًا، فبدلًا من الاعتماد على اللمس أو الكتابة، يستطيع المكفوف أن يتفاعل مع التطبيق بالأوامر الصوتية ويستمع للتلاوة التي يريدها، مثلًا يمكنه أن يطلب تشغيل سورة معينة أو الاستماع لآيات محددة من سورة ما مع تكرارها بالقدر الذي يحتاجه، أو طلب تلاوة آية معينة من سورة وطلب إكمالها..
التحدي هنا هو أن أنظمة التعرف الصوتي العامة لا تكفي، لأنها غالبًا مدربة على الكلام اليومي باللهجات المختلفة بينما المطلوب في التطبيقات القرآنية فهم اللغة العربية ولهجاتها المختلفة والتدرب على نصوص التلاوة القرآنية. ولتحقيق ذلك، يجب بناء نموذج صوتي مدرَّب خصيصًا على هذه البيانات ليجعل تجربة التفاعل الصوتي مع التطبيقات أسهل وأكثر فعالية.
2. توفير نظام إجابات ذكية صوتية
من التطورات المهمة في التطبيقات القرآنية للمكفوفين تمكينهم من طرح أسئلة صوتية والحصول على إجابة مسموعة مباشرة. فمثلًا يمكن أن يسأل المستخدم: ما معنى كلمة الكفّار في الآية الكريمة؟ "كمثل غيثٍ أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا" فيستمع فورًا إلى إجابة تتضمن تفسيرها من مصدر موثوق.
لتنفيذ هذه الفكرة، يحتاج التطبيق للمرور بعدة مراحل أساسية:
- التعرّف التلقائي على الكلام Automatic Speech Recognition: حيث يستمع النظام إلى كلام المستخدم ويحوّله إلى نص مكتوب.
- معالجة اللغة الطبيعية Natural Language Processing: لفهم محتوى السؤال وتحليله لغويًا بدقة.
- البحث في مكتبات تفسيرية موثوقة: لاستخراج الإجابة الصحيحة من مصادر معتمدة.
- تحويل النص إلى كلام Text To Speech: حيث تتحول الإجابة النصية إلى صوت مسموع وواضح للمستخدم.
ملاحظة: التحدي الأساسي هنا ليس في الجانب التقني فقط، بل في ضمان دقة وموثوقية المعلومات. فلا ينبغي أن يقدم التطبيق إجابة غير دقيقة لأن الأمر يتعلق بتفسير كلام الله تعالى.
3. التزامن الدقيق بين الصوت والنص
عند استماع الكفيف للقرآن الكريم، قد يحتاج إلى معرفة موقعه بالضبط داخل النص هل هو عند كلمة معينة، أم بداية آية، أم منتصفها؟ خصوصًا إذا أراد تكرار موضع محدد أو التدرب على أحكام التجويد.
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي في تقنية المحاذاة التلقائية Forced Alignment، حيث يقوم بتحليل الصوت والتعرف على الكلمات بدقة، ومطابقتها مع النص المكتوب كلمةً بكلمة، أو حتى حرفًا بحرف. هذا يتيح للمستمع الضغط على أي كلمة في النص، فيبدأ الاستماع من تلك النقطة مباشرة، دون الحاجة للبحث اليدوي الطويل.
يمكن التحدي في التلاوة القرآنية في أن الأداء ليس ثابتًا كالقراءة العادية، إذ تتخلله مدود وغنات، وهنا يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي وتدريبه للتعامل مع هذه التعقيدات لضمان تزامن دقيق وسلس بين الصوت والنص.
4. تحويل النص إلى كلام بصوت طبيعي باستخدام تقنية Neural TTS
من أبرز ما يقدمه الذكاء الاصطناعي للمكفوفين هو القدرة على الاستماع للنصوص القرآنية والتفاسير والترجمات بجودة صوتية عالية أقرب إلى الأداء البشري الطبيعي.
فأي نص مكتوب يمكن أن يتحول إلى صوت طبيعي كأنه إنسان يقرأ أمامك، هذا الأمر أصبح متاحًا من خلال تقنية تحويل النص لكلام باستخدام الشبكات العصبية Neural Text-to-Speech أو Neural TTS اختصارًا ومن خلال دمجها في التطبيقات القرآنية ستمنح المكفوفين فرصة للاستماع للقرآن الكريم أو التفاسير أو الترجمات بصوت واضح والجيد في الأمر أن هذا الصوت لن يكون آليًا جامدًا بل قريب جدًا من الأداء البشري ويمكن التحكم فيه وتغيير أسلوبه أو تسريع وإبطاء القراءة حسب الحاجة.
التحدي هنا هو أن نماذج Neural TTS models تكون عادةً كبيرة الحجم ومعقدة، لأنها تعتمد على الشبكات العصبية العميقة Deep Neural Networks لتوليد صوت طبيعي قريب من صوت الإنسان وبالتالي ستحتاج لأجهزة متطورة مثل GPU أو CPU قوية أو خادم سحابي متصل بالإنترنت ولهذا السبب تجري الكثير من الأبحاث لتطوير نسخ خفيفة من هذه النماذج يمكن تشغيلها مباشرةً على الأجهزة الشخصية محدودة الموراد.
5. تقييم وتصويب التلاوة
بالنسبة لكثير من المكفوفين، يُعد إتقان التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم هدفًا رئيسيًا وهنا يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تساعدهم وتلعب دور المدرّب الافتراضي للتصحيح وتحسين التلاوة.
الفكرة هي أن يقوم المستخدم بتسجيل تلاوته، ثم يقارنها النظام بنموذج مرجعي يمثل القراءة الصحيحة. بعد ذلك يقدم التطبيق ملاحظات تساعده على التطوير، مثل تصحيح أخطاء الكلمات أو التشكيل لضمان التلاوة الدقيقة والواضحة أو تنبيه حول نطق حرف بشكل غير صحيح أو أخطاء في مخارج الحروف.
يمكن في البداية أن يقدّم النظام الذكي ملاحظات مبسّطة ويوضح هل هناك كلمة ناقصة أو حرف لم يُنطَق بوضوح مع أمثلة صوتية للتصحيح. ويمكن في مرحلة متقدمة تصحيح أحكام التجويد الدقيقة لضمان قراءة صحيحة ومتقنة للقرآن الكريم.
6. تخصيص التطبيق حسب احتياجات المستخدم
لكل مستخدم احتياجات وتفضيلات مختلفة عند التعامل مع التطبيق القرآني فبعضهم يفضل سرعة تلاوة أسرع، بينما يفضل آخرون أصوات قرّاء معينة أو تفسيرات مبسطة تساعد على الفهم السريع. هنا تظهر أهمية أنظمة التخصيص الذكية، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقديم تجربة شخصية لكل مستخدم.
يجعل الذكاء الاصطناعي تجربة المستخدم شخصية وسهلة التخصيص لزيادة راحة المستخدم وتعزيز فاعلية التعلم والتلاوة فيمكن أن يقوم بعدة أدوار كحفظ التفضيلات الفردية مثل سرعة التلاوة وهل يفضل عرض تفاسير أو تحليلات لغوية مفصلة أم يفضل المعلومات المبسطة، كما يمكنه تحليل سلوك المستخدم فيتابع كيف يستخدم التطبيق، وما هي السور التي يفضلهاـ وما القراء الذين يستمع لهم بكثرة ليحسّن الإعدادات والتوصيات ويكيّفها بشكل ديناميكي مع احتياجاته تلقائيًا، دون الحاجة إلى لضبطها يدويًا.
7. توفير واجهات صوتية ولمسية ذكية
يمكن للتطبيق أن يعتمد على التنقل الصوتي الكامل بدلًا من الاعتماد على الأزرار الصغيرة أو القوائم المربكة، بحيث يوجّه المستخدم صوتيًا ويتحكم بكل وظائف التطبيق، مثل الانتقال بين السور أو الآيات.
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي ليجعل هذه العملية أكثر سهولة، حيث يمكنه فهم نية المستخدم بدقة، حتى لو كانت الأوامر غير مكتملة أو تحتوي على أخطاء لفظية بسيطة، واقتراح الخيارات المناسبة أو التنبؤ بالأوامر المحتملة لتسهيل التنقل السريع داخل التطبيق، والتحكم التكيفي في إشارات الاهتزاز Haptics، بحيث يقرر نوع ومدة الاهتزازات لتأكيد تنفيذ الأوامر بطريقة مريحة وفعالة.
كما يمكن دعم أجهزة برايل الذكية Smart Braille Devices، حيث يعتمد بعض المستخدمين على أجهزة برايل أو أدوات لمسية أخرى لقراءة النصوص بدل الاعتماد على الصوت فقط. لذا، من المهم تصميم التطبيق بطريقة تسمح بدمج هذه الأجهزة بسلاسة مع باقي وظائف التطبيق. الهدف هو توفير تجربة متعددة الحواس، تجعل التطبيق مفيدًا وفعالًا لجميع المستخدمين، سواء كانوا يعتمدون على حاسة السمع أو اللمس أو كليهما معًا.
تجدر الإشارة لأن تصميم مثل هذه الواجهات يتطلب الالتزام بمعايير الوصول العالمية مثل WCAG، مع ضرورة إشراك المكفوفين في تجربة التطبيق المباشرة لضمان سهولة الاستخدام وفاعلية التصميم مع حاجاتهم الفعلية.
8. تمكين التقنيات الذكية من العمل دون اتصال بالإنترنت
آخر أمر أود الإشارة له هو توفير طريقة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي دون اتصال بالإنترنت لأن المكفوف قد يكون أحيانًا في بيئة لا تسمح بالاتصال، هذا الأمر قد يشكل تحديًا للمطورين لأن معظم النماذج تحتاج إلى اتصال دائم بالإنترنت.
يمكن حل هذه المشكلة مبدئيًا من خلال تحميل نماذج صغيرة مدرّبة مسبقًا مثل نماذج التعرف التلقائي على الكلام ASR أو نماذج تحويل النص إلى كلام TTS لتشغيل التلاوة أو قراءة التفسيرات داخل التطبيق. صحيح أن هذه النماذج قد تكون أقل دقة من النماذج الكبيرة، لكنها ستمنح المستخدم مرونة واستقلالية حقيقية وتتيح له التفاعل مع التطبيق في أي وقت وأي مكان بدون الحاجة للإنترنت.
شاركونا النقاش
كانت هذه أبرز تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يمكن دمجها مع التطبيقات القرآنية الموجهة للمكفوفين، بهدف تحسين تجربتهم في تلاوة القرآن وفهمه والتفاعل مع محتواه بسهولة وفاعلية أكبر.
هل لديكم أفكار ومقترحات أخرى يمكن أن يساهم فيها الذكاء الاصطناعي في تطوير التطبيقات الموجهة لهذه الفئة مهمة من المجتمع والتي تستحق منا كل الاهتمام، وهل تعرفون مشاريع أو تطبيقات ناجحة راعت احتياجات المكفوفين وتستحق تسليط الضوء عليها كنماذج ملهمة؟ شاركونا آراءكم وأفكاركم